أتعهد بأنني لن أدفع أو أقبل رشوة من أحد

Untitled

بقلم : محمد لطفي

” ده نظام يا ابني فاتح بيوت آلاف البشر .. محدش فيهم حيرضي انك تيجي علي أكل عيشه ”
هكذا قال لي أحد المحامين الكبار حينما أخبرته بأنني لن أدفع رشوة لأي شخص مهما كانت الخدمة التي سيقدمها لي .

مصر – 2012
منذ يومي الأول في مهنة المحاماة أيقنت بأن الفساد المستشري في تلك المهنة قد فاق الوصف ، فالكثير من العاملين بوزارة العدل لا يؤدون عملهم إلا بعد ان تعطيهم رشوة مالية أو ( الأصطباحه ) كما يحلو لهم ان يطلقون عليها ، ظنا منهم ان هذه التسمية ترفع التجريم عن ذلك الفعل المؤثم قانونا
عجبا الوزارة التي يناط بها تحقيق العدل والقضاء علي الفساد هي اكبر المصالح الحكومية تلقيا للرشاوى .

الهند – 2008
فيجاي أناند شابا هنديا درس في الولايات المتحدة الأمريكية و بعد أن أنهي دراسته قرر العودة إلي الهند ، ومنذ عودته إلي بلدته الصغيرة في الهند وجد ان الفساد يملئ أركان المؤسسات الحكومية ، ويكاد ان لا توجد مصلحه تقضي إلا بعد ان يدفع المواطن رشوة مالية  .

كانت احدي المهام المكلف بها في وظيفتي هي تقديم الإعلانات القضائية لقسم المحضرين التابع لوزارة العدل ليقوم هو بدوره بإعلانها إلي المواطنين ، و يكفي ان أذكرك ان وظيفة المحضر معروف عنها منذ زمن بعيد بضلوع من يعملون فيها في تلقي الرشاوى ، فيكفي ان أخبرك ان الفنان حسن عابدين قد قال لأحد الأشخاص في فيلم درب الهوا إنتاج عام 1983 بأنه سيعين ابنه في وظيفة تجعله يربح أكثر من القاضي إلا وهي وظيفة المحضر . .
تحاشيت تماما التعامل مع المحضرين المعروفين عنهم بتعطيل إعلان الأوراق القضائية إلا بعد إعطائهم رشوة مالية ، حتى أجبرتني الظروف علي التعامل مع احدهم مباشرة ، الأستاذ (ع) الذي يعمل محضرا في احدي محاكم القاهرة ، منذ بداية تعاملي معه وأنا اعلم جيدا انه لا يرد علي كلامي إلا بعد ان أعطيه ( الاصطباحه ) أعطيته الإعلان وتركته و مشيت ، وبعد مرور أسبوع ذهبت إلي المحضرين فوجئت بأن الإعلان لم يتم إعلانه ، ذهبت إلي المحضر (ع) قال لي نصا :
الإعلان مش حيتعلن لو حتى السنة الجاية .. روح قول كده للأستاذ صاحب المكتب –
عرفت انه يريد الحصول علي رشوة مالية مقابل أدائه لمهام عمله التي يتقاضي عليها راتب من الدولة ، في ذلك الوقت قام العديد من المحاميين  بدفع رشاوى مالية أمامي لذلك المرتشي (ع) حتى ينهي لهم أعمالهم .
” أنت مش بتكسب يا أستاذ وبتاخد فلوس كتير .. مش حتموت يعني لما تدي للمحضر قرشين عشان يخلصلك شغلك ”
هكذا قال لي رئيس الموظف (ع) في العمل ، حينما ذهبت له لأشتكي من الأستاذ (ع) لأنه لا يريد القيام بعمله إلا بعد الحصول علي رشوة مالية .
في الوقت الذي قررت فيه ان ادفع رشوة مالية لذلك الموظف ، مرت أمام رأسي صور من ماتو وسجنوا وسحلوا من أجل أن تصبح تلك البلد أحسن حالا مما هي عليه ، شعرت بأنني أبيع دمائهم مقابل خمسون جنيها سأدفعها لذلك الموظف ، لم تكن المسألة تحتاج إلي اختيار ، فليذهب الإعلان والمحضر والمحاماة كلها إلي الجحيم ، لن أدفع مليما لأحد .
قرر فيجاي ان يواجه الفساد في بلدته الصغيرة ، استحدث طريقة جديدة وبسيطة في مواجهة الفساد في بلدته بأن صمم عملة ورقية تشبه الخمسين روبية ( العملة الرسمية في الهند ) ولكن العملة التي قام بتصميمها كانت بقيمة صفر روبية ، ومكتوب عليها بخط واضح
” أتعهد بأني لن أقبل أو أدفع أي رشوة ”
لم تتوقف أمال فيجاي إلي محاربة الفساد في بلدته فقط ، بل أنه قام بتدشين موقع علي الانترنت باسم ZeroCurrency.org وضع عليه العملات الورقية لمعظم البلدان حول العالم وجميعها بقيمة صفر
طبعت ورقة فئة الخمسون جنيها ، وذهبت إلي الأستاذ (ع) وقفت بجوار مكتبه وأسقط الورقة المطبوعة فئة الخمسون جنيها في درج المكتب الخاص به والمكتوب عليها ( أتعهد بأنني لن أقبل أو أقبل رشوة ) ، وجده اخرج لي الإعلان الخاص بى وأعطاه لي وقد قام بإنهائه وقال لي ساخرا :
– كل المحامين الشباب اللي زيك كانوا كده .. وبعدين بيفتحوا دماغهم عشان مصالحهم تمشي
أخذت منه الإعلان ووضعته في حقيبتي ، وردت عليه وأنا أكثر سخرية :
أنا مش زى المحامين اللي بيفتحوا دماغهم –
وتركته وذهبت ، لم أذهب إليه مرة أخري لأعرف ردة فعله بعد ان اكتشف ان الخمسون جنيها التي أعطيتها إليه غير قابلة للصرف  ، هل أثرت فيه من عدمه ؟ هل قرر انه سينتقم مني وسيوقف كل مصالحي في المستقبل أم لا ؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها في رأسي لكني أمنت تماما بأن ما فعلته هو الصواب .
” أنت كسبت جولة .. بس لسه مكسبتش الحرب ”
ما قاله لي احد المحامين الذي لم يدفع رشوة في حياته .. حتى في أحلك الظروف وفي أوقات كان مستقبله المهني علي المحك .
كانت تجربة فيجاي ملهمة لي إلي درجة كبيرة ، ليس لأنه قاوم الفساد فقط ، بل لأنه قاوم الفساد بأسهل الطرق وأبسطها ، فلم يحتاج إلي جيوش وأسلحه لكي يحارب وينتصر ، بل أستغل عقله في إيجاد طريقة مبتكرة لمواجهة الفساد المستشري في بلدته ، والاهم من ذلك انه بدء من نفسه ولم يضع وقتا في عقد اجتماعات ولقاءات من اجل البحث عن سبل مواجهة الفساد والقضاء عليه .

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *